الثلاثاء، 1 فبراير 2011

معجزة حج الأربعين

بسم الله الرحمن الرحيم
 
    يقولون أن زمن المعجزات قد انتهى، ويقولون أن زمن الحب إلى حد الجنون قد ولّى، ويقولون أن زمن رجال الرسالات والقيم النبيلة والذين يضحون بأرواحهم في سبيلها قد اندثر، ويقولون أن زمن الضيافة الحاتمية الخرافية قد درس..أبداً!
    قصة يوم الأربعين

قُم جَدّد الحُزْنَ في العِشرينَ مِنْ صَفَرِ               فَفيهِ ردّت رُؤوسُ الآلِ للحُفَرِ

    البارحة عدت إلى أرض الوطن الغالي من رحلتي لزيارة الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في يوم الأربعين في كربلاء المعلاة، وقد نصت أحاديث أهل بيت العصمة عليهم السلام على عظمة هذه الزيارة، حتى قال فيها الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنها من علامات المؤمن. يوم الأربعين - كما يتبين من اسمه - هو اليوم الأربعين بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في العاشر من المحرم، أي أن يوم الأربعين يكون في العشرين من صفر، وفي ذلك اليوم زار الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري قبرَ الإمام الحسين عليه السلام، ونال شرف أول زائر من عوام الناس لقبر الشهيد، وفي نفس اليوم زار الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام قبر والده برفقة عماته ونساء أهل البيت وعلى رأسهن فخر المخدرات زينب بن علي عليهما السلام، ومعه رأس الحسين عليه السلام ورؤوس شهداء الطف وقد ألحق الرؤوس بالأجساد الشريفة في قبورها، وقد التقوا بجابر عند قبر الحسين عليه السلام.
    الرحلة العظيمة
    خرجت برفقة جمع من المؤمنين في فجر الجمعة ٢١ يناير برًّا إلى مدينة النجف الأشرف حيث يرقد جثمان خير الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله..حيث القبة الذهبية..حيث بطل الإسلام الأول..حيث سيد الأوصياء..حيث من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا أله إلا الله..حيث أخي الرسول وزوج البتول وأبي الحسنين عليهم السلام..حيث قداسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وفدت على الإمام وأنا بين الذل والرجاء، وقفت عنده وقفة تمثلت فيها العبد تارة والابن تارة، كيف لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أنا وعلي أبوا هذه الأمة ). بتنا عند الأمير ليلة وفي صباح اليوم التالي استأذنّا منه عليه السلام لزيارة ولده الحسين عليه السلام، وانطلقنا من النجف إلى كربلاء مشيًا على الأقدام في مسافة تقارب ١٠٠ كيلو متر - ينقص أو يزيد -.
    معايشة المعجزة
    مذ خرجنا على الطريق المؤدي إلى كربلاء ابتدأت مواكب الضيافة من النجف حتى كربلاء! وجدنا الناس تعاملنا بإكبار يصل إلى حد القداسة! فهم يعتقدون بأننا حزنا مرتبة عالية كوننا زوارا للحسين عليه السلام، فتراهم يخدموننا أي خدمة! الماء والشاي والقهوة والتمر والحامض والحليب والفواكة والشوربة والوجبات الثلاث الإفطار والغداء والعشاء والعصائر ومضائف الاستراحات والنوم المجهزة البطانيات والوسادات وأحيانا بأجهزة التدفئة .. والأهم من كل هذا .. الروح المحبة والكلمة الطيبة .. ( اشرب ماي يا زاير .. شاي يا زاير .. زوار تغدوا .. فطروا زوار .. هلا بيكم .. هلا بزوار الحسين .. هلا بزوار أبو السجاد .. علي وياكم علي وياكم .. إلخ ) حتى أنهم من حرصهم على راحة الزوار يقومون بتدليك أرجلنا! ويقسمون علينا أن لا نردهم في شيء ( والعباس تشرب .. وعلي تاكل .. عليك الله تجي .. صبيتلك خلاص خلاص ) حالة ضيافة خرافية من شعب فقير ماديا!! رأينا أبقارا ونعوجا تذبح، وهذه تمثل ثروة بالنسبة لهؤلاء المضيفين، ولكن تجدهم يرخصون كل شيء لزوار الإمام الحسين عليه السلام، واعلم عزيزي القارئ أن الوصف ليس كالمشاهدة، ما رأيناه لا يدخل العقل! إذا أخذنا منهم شيئا يشعرون أننا تفضلنا عليهم بقبولنا ما يقدمون من ضيافة، هم لا يرجون إلا راحتنا ورضانا .. والطامة كل الطامة إذا أبدى أحد الزوار تضايقه أو انزعاجه من شيء ما! حينها لا تستغرب من صاحب المضيف إذا غمرت عينيه الدموع، قال في هذه الضيافة أخي محمد الحرزي مخاطبا الحسين عليه السلام :

واغتالَ أهلكَ فرطُ الجودِ حينَ غدوا               دونَ المكارمِ يا ابنَ الطيّبينَ وقا


    المشاية  - وهو الاسم الذي يطلق على الزوار الذين يقصدون كربلاء مشيًا على الأقدام - يعدّون بالملايين، ما بين رجال ونساء وأطفال وشيوخ وأصحاء وعليلين أو معاقين..

الــدرب لـعــيون أبـو اليـمـة مشيته
وتــرى مـا هي بمشيتي .. بمشيته
قالوا ليش هالكلفة؟ .. مشي .. تيه
قلت مـا يتـوه درب حسيـــن بـــيّــه

الكثير منهم يرتدي كفنًا! وفي ذلك رد على الإرهابيين الذين لا يزالون يفجرن في مواكب العزاء والمشاية، لم نرَ من يبدي أي خوف من هذه الإنفجارات التي طالت المئات من الشهداء في طريق الحسين عليه السلام، وكما في معنى إحدى كلمات الإمام  موسى الكاظم عليه السلام أن شيعتنا كالمسمار كلما اشتد عليهم الضرب ازدادوا ثباتًا وتمسكًا بنا..
           
والحب كالمسمار حالة ضربه               يرسو فقل سلمت يمين الأشولِ


    أكثر كلمة كانت تتردد بين الزوار إذا ما سمعوا بأخبار الإنفجارات هي أن الموتة واحدة فحبذا هذه الموتة الشريفة عن سواها!، كنا نمشي ونرى في كل يوم سيارات إسعاف مسرعة لحمل جثث شهداء إثر إنفجار والناس تمشي وكأن شيئا لم يكن، بل أن من الناس الذين حضروا وعاينوا إحدى هذه الإنفجارات كانوا يبكون لأنهم لم يوفّقوا بأن يكونوا ضمن المستشهدين في طريق الحسين عليه السلام! أحدهم يقول ( أخيه لو كنت متقدم بعد مترين جان آنا مستشهد بس حرامات الله مو كاتبلي ). كنا نردد مع العراقيين هذه الهوسة والإبتسام يملأ وجوهنا ( يفجرونا وانظل انزور .. يفجرونا وانظل نزور )، أي مشقة لذيذة؟ وأي إقدام يهز عروش الضلال والكفر؟ يحضرني هنا بيت المتنبي :

لولا المشقة ساد الناس كلهم               الجود يفقر والإقدام قتالُ

ولكن جود المضيفين في حب الحسين يغني ولا يفقر، والإقدام وإن كان قتالاً للأبدان أمام متفجرات الإرهابيين إلا أنه يحي الشهيد عند ربه سعيدا ( لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون )، وإن خدمة الحسين هم أعز سادة في ميزان العقلاء والعرفاء..والأهم من ذلك في الميزان الإلهي.
    تنفني الإنتماءات الدنيوية في طريق الحسين، فالجنسية هي حب الحسين عليه السلام، والأنساب هناك تنتهي عند الحسين عليه السلام..يقول أخي محمد الحرزي :

أهواك يا ابن علي والهوى نسب               بين الذوات وأن لم تنطبق مثلا

ولكن كان من العجيب رؤية كل هذه الجنسيات! من كل بقاع الدنيا، رأينا الكويتيين وأهل الخليج عموما، ورأينا الإيرانيين ورأينا الهنود ورأينا الأتراك ورأينا الباكستانيين ورأينا التونسيين ورأينا اللبنانيين بل ورأينا حتى الصينيين!
    وأعجب ما في تلك الأيام التي كانت أشبه بالحلم، بل هي الحقيقة الوحيدة في عالم جله كابوس وبعضه حلم، أعجب شيء كانت روح المحبة السائدة في ذلم المكان المقدس، الرابط بين الزوار وبعضهم وبين الزوار والمضيفين وبين المضيفين وبعضهم كله حب ومودة وخدمة! لم أرَ في حياتي هذا التكافل والتعاضد لاسيما في عالمنا المعاصر والذي ملأته النفوس المريضة، الناس تبادل بعضها الإبتسامات والدعوات الصالحة، لم أر أي سوء تفاهم أو شد عصبي مثلا .. وتفسير ذلك جلي، فالرابط في ذلك الممشى المشرف هو حب الحسين عليه السلام، الزوار يحمل حب الحسين أرجلهم والمضيفين يقدمون كل ما يملكون حبًا بالحسين، وما بني على حب كان أثره الحب..والحب فقط.
    إحدى خصائص ذلك الممشى، أن كل من وقف فيه مجاهد! فالإرهابيون يواصلون تفجيراتهم يوميًا في ذلك المكان، لذا فكل من يتواجد في ذلك المكان يعلم أن الإحتمال قائم في أي لحظة بأن تنفجر به عبوة ناسفة أو سيارة مفخخة وتزهق روحه على طريق كربلاء..حتى أننا رأينا الكثير من الرجال والنساء يرتدون الكفن أثناء مشيهم! يا لها من لطمة عنيفة مستهزئة في وجه كل تكفيري إرهابي غبي! عن ماذا تريد أن تنحينا؟ عن الحسين؟ هل جننت؟ ألم تقرأ التاريخ؟ ألم تعلم من هم الحسينيون؟ ألم تعلم أن الطواغيت قبلك من أمراء وملوك ورؤساء قد عملوا المستحيل ليطفؤوا نور الله والله يأبى إلا أن يتم نوره..أين الأمويون؟ أين العباسيون؟ أين أزلام صدام اللعين؟ كلهم إلى مزبلة التاريخ، ويبقى الحسين شامخًا تتوافد عليه الملايين كل سنة..وهذه صرخة الحوراء زينب عليها السلام في وجه يزيد بن معاوية (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.) صدقتي يا مولاتي..ولازالت الملايين تصرخ:

لو قطعوا أرجلنا واليدين              نأتيك زحفًا سيدي يا حسين


    على حدود كربلاء
    في اليوم الثالث لنا مشيًا، وصلنا إلى حدود أرض كربلاء المقدسة..وهناك قرر منظموا موكب أهالي الكويت الذي التحقنا به أن نتخذ حسينية علي الأكبر مركزا للراحة، وتقع هذه الحسينية في منطقة الإبراهيمية على مشارف كربلاء..مما اضطرنا أن نحول مسيرنا من الشارع الأساسي إلى شارع فرعي يغوص في منطقة مقطوعة عن المضائف، وهناك بدأنا نشعر بالهدوء الموحش..أين الأصوات التي ما انفكت ترحب بنا؟ أين الماء الذي نجده متى عطشنا؟ أين جموع المشاية من حولنا؟ لا شيء من ذلك! كأننا انتقلنا إلى بلد آخر..وفي تلك الأثناء، عندما سألت نفسي هذه الأسئلة السابقة، وإذا بي أسمع صوتا من بعيد..رفعت رأسي إلى جهة اليسار..وإذا بطفلة لم تبلغ الخامسة من عمرها، شقراء الشعر، في قمة البرائة والجمال، خرجت تركض من منزلها القديم والذي بدا مهجورًا، وهي تصرخ بصوتها الرقيق ولسانها العراقي المتكسر : زوار أبو علي..زوار أبو علي..زوار أبو علي..زوار أبو علي! صوت ترق له العيون بعد القلوب، عندها قلت لمن حولي : تحيةٌ تشجيعية ترحيبية من هذه الملاك أحلا على قلبي من كل ما لاقيناه من ترحبيب وتحايا طول الدرب في الأيام الثلاث السابقة! فعلا مشهد ساحر لا تفارق صورته مخيلتي.
    الوصول إلى كربلاء
قد وردنا كـــــــــــربلا أي ورود
والسما نادت نداءً في الحشود
قد وصلتم أرض غايات الوجود
فادخلـــــــوها في سلام آمنين

    كأنما قامت القيامة! أكثر من ١٧٠٠٠٠٠٠ زائر في أرض كربلاء يوم الأربعين، السماء تبدي لونًا من ألوان الجنة، والقبة الذهبية تبدو وكأنها تمسك زمام الدنيا، كأن الكون كله يطوف حول كربلاء، والدموع تتساقط على الأرض التي لطالما أبكتها..أرض الطف..أرض الأحرار..أرض سقوط جسد الحسين وارتفاع روحه المقدسة وخلود ثورته المتجددة.

    بين حج البيت وزيارة الأربعين
    في كربلاء استقبلنا سماحة السيد حسين المدرسي وأقمنا في مكتب أخيه المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي (حفظهما الله تعالى) وقد تشرفنا بمسامرة السيد حسين في أكثر من مجلس، وكانت إحدى أحاديثه مقارنة بين حج  بيت الله الحرام وزيارة الأربعين.. أنقل لكم بعض نقاط المقارنة العجيبة..
    - حج البيت فرض واجب لابد من أدائه.. أما زيارة الأربعين فرض وجداني حتمه الحب وليس الأمر!
    - حج البيت لمن استطاع له سبيلا.. وزيارة الأربعين يقوم بها حتى العاجز عن المشي، وقد رأينا من كان يزحف زحفًا نحو الحسين!
    - حج البيت واجب على جميع المسلمين بكل مذاهبهم الـ٧٢ مع ذلك فإن عدد الحجاج كل سنة لا يتجاوز الـ٣٠٠٠٠٠٠ حاج.. وزيارة الأربعين يؤديه مذهب واحد من تلك المذاهب وعدد الزوار في تزايد مستمر حتي بلغ هذه السنة ١٧٠٠٠٠٠٠ ويتوقع أن يصل في السنة المقبلة إلى ٢٠٠٠٠٠٠٠ زائر، هذا مع الأخطار والصعوبات والتواجد الإرهابي.
    - حج البيت في المملكة العربية السعودية وهي دولة ذات إمكانيات ضخمة.. أما زيارة الأربعين فهي في دولة متأزمة سياسيا واقتصاديا، ولكن المعجزة أن الخدمات التي يقدمها المضيفون في كربلاء وفي كل الطرق المؤدية إلى كربلاء تعجز عنها جميع الحكومات! من يستطيع أن يوفر مأكلا ومشربا ومسكنا لـ١٧ مليون زائر! وليس هذا فحسب بل طعام وشراب فائض لا محدود، أي أن الزائر يكون منعما ويتوفر له كل ما يطلب حتى أنه يمل الأكل وتصاب معدته بالتخمة.. وتتلقفه أيدي المضائف فيتفضل على إحداها ليأكل أو يبات! هذا ما لا يقبله منطق ولا عقل.
    - في حج البيت تتكاثر الأمراض، حتى أن الحاج لا يخرج من وطنه قبل أن يطعم بأنواع التطعيمات ليحصن نفسه من تلك الأمراض، وفي كثير من الأحيان لا يتحصن!.. أما في الزيارة فالزوار تذهب وتعود دون أي رعاية صحية خاصة ولا نجد  نسبة أمراض ملفتة، بل أن أصحاب الأمراض والعلل يتسابقون للزيارة حتى يرجعون متعافين ببركة الإمام الحسين عليه السلام.
    - القرآن يوصي حجاج البيت الحرام بالالتزام بالأخلاق والطيبة والنفس المهذبة فيقول (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) ولكن مع الأسف نجد الكثير من النماذج السيئة التي تصل إلى حد الظاهرة، من التحرشات الجنسية ومن السرقات ومن المشاكل والأعصاب المشدودة.. أما في الزيارة فالأجواء كلها ود ومحبة وإخاء ولا تكاد ترى أي من تلك النماذج السيئة، ومن حضر الزيارة يعلم تماما عن ماذا أتكلم.
    - في الحج يستقبل "مستدبري قبر الرسول الأعظم" زوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوار الحسن عليه السلام بالتكفير والتفسيق والاتهام بالبدعة والشرك والضلال.. أما في الزيارة فإن أصحاب البلد يستقبلون زوار الحسين بالتبرك بتراب أقدامهم وحملهم علي الرؤوس!
    - الحج يكون إلى حجر، وهو البيت الحرام حيث ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو قبلة الأبدان.. أما في الزيارة فالحج يكون إلى روح، روح الإمام الحسين عليه السلام ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقبلة الأرواح.
    في النهاية نكتفي بهذين الحديثين الشريفين .. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر بن عبد الله الأنصاري رضوان الله تعالى عليه: (يا جابر زر قبر ابني الحسين فإن زيارته تعدل مئة حجة)، و قال الإمام محمد الباقر عليه السلام : (لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقاً ، وتقطّعت أنفسهم عليه حسرات ، قلت : وما فيه ؟.. قال : من أتاه تشوُّقاً كتب الله له ألف حجة متقبلة ، وألف عمرة مبرورة ، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر ، وأجر ألف صائم ، وثواب ألف صدقة مقبولة ، وثواب ألف نسمة أُريد بها وجه الله ، ولم يزل محفوظاً سنته من كل آفة أهونها الشيطان ، ووكّل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدمه. فإن مات سنته ، حضرته ملائكة الرحمة ، يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ، ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له ، ويُفسح له في قبره مدّ بصره ، ويؤمنه الله من ضغطة القبر ومن منكر ونكير أن يروّعانه ، ويُفتح له باب إلى الجنة ، ويُعطى كتابه بيمينه ، ويُعطى يوم القيامة نوراً يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب ، وينادي مناد : هذا من زوار قبر الحسين بن علي - عليهما السلام - شوقاً إليه ، فلا يبقى أحد في القيامة إلا تمنى يومئذ أنه كان من زوار الحسين بن علي  عليهما السلام ).
    تزوروني - ملا باسم الكربلائي
    في كل مضيف، وطوال الطريق من النجف وكربلاء، أجهزة تسمعنا اللطميات والمراثي والهوسات والقرآن الكريم والمحاضرات..ولكن أكثر ما علق في أسماعنا وحفر في قلوبنا لطمية الملا باسم الجديدة ( تزوروني )..


    أبطال الرحلة
    انضممنا مع موكب أهالي الكويت والذي صادفت فيه العديد من الأصدقاء على رأسهم ابن عمتي علاء الحواج - وفقه الله -، ومن الأصدقاء في الرحلة الأخوان : باقر الجدي والسيد أحمد زيد وعلي الحرزي وعبد الله جمال ومحمد أشكناني وعبد العزيز وغيرهم الكثير، ولكن المجموعة الأقرب والذين سكنت معهم في النجف وكربلاء هم : الشيخ محبوب أبو البنات - عممه في هذه الرحلة السيد حسين المدرسي في كربلاء المعلاة - والدكتور موسى البلوشي والعم علي الحرزي ( أبو حسين ) والعم عبد الله الحرزي ( أبو عيسى ) وعلى رأسنا جميعًا فارس المجموعة أخي الحبيب محمد الحرزي والذي لولاه لما وفقت لهذه الرحلة العظيمة فقد سخره الله تعالى سببًا لي ولغيري للتوفيق لهذه الزيارة، وقد كان خير معين ورفيق في السفر، يعطي من راحته - في أشد احتياجه للراحة - لأخوانه الزوار حتى ممن يجهلهم، من هنا أوجه له الشكر الجزيل والذي لن يوفيه حقه أبدا..شكرًا أبا فاطمة.

الجمعة، 5 نوفمبر 2010

الوسيلة تُبرّر الغاية

بسم الله الرحمن الرحيم

" الغاية تبرّر الوسيلة " مثل عربي قديم، يتفق معه الكثير كما يختلف معه الكثير أيضاً، مثاله حصل قبل يومين في موقفٍ أترك الحكم عليه للقارئ؛ حيث كان أحد الأقارب مع زوجه وولده الطفل في أحد المطاعم المشهورة في الكويت، جلس الزوجان والولد وطلبوا من قائمة الطعام ما يشتهون، ولسوء الحظ أنّه ممّا اشتهته هذه الأسرة الكريمة كان طبقاً من الفاهيتا التي تحضّر بالمقلاة مباشرة أمام الزّبون، وهذا ما حصل حيث جلب النادل مقلاة الفاهيتا، وفيها الزيت يغلي ويصدر الصوت المغري ( تشششششش )، والمصيبة حدثت عندما اقترب النادل من الطاولة، وإذا بيده تفقد توازنها وتميل! - دون تعمّد - وينسكب شيء من الزيت المغلي على وجه الطفل المسكين الذي صمَّ الآذان بالصراخ باكياً! فما كان من الأب إلا أن وقف على رجليه وأبرح النادل - وهو من جنسيّة عربيّة - ضرباً بكل ما أوتي من عزمٍ وقوّة، حتى أنّ النادل فرّ إلى المطبخ حيث تبعه الأبُ مكمّلاً المشهد العنيف الذي لا يُرى إلاّ في الأفلام! وبعد مناقشة الموقف مع الأهل - الذين اصطفّوا مع الأب طبعاً - كانوا يقولون : خيراً فعل! لقنّه درساً لينتبه مرة أخرى، فقلت : وهل كانت طريقة الضرب بالتي هي أوحش صحيحة؟ فكان جوابهم : الغاية تبرّر الوسيلة!
أنا أجزم أنّ قارئي هذه السطور تختلف مواقفهم تجاه الحادثة السابقة، منهم يتفق مع " الغاية تبرّر الوسيلة " لاسيّما إذا وضع نفسه في موقف الأب، ومنهم يختلف! لا سيّما إذا وضع نفسه في موقف النادل غير المتعمّد والذي كان في موقفٍ نتعرّض له دائما في إيقاع الأشياء لا إراديّاً، إذن هذا المثل الشهير ليس مقبولاً دائماً، لأنّه قد يكون في الوسيلة هتكٌ لقيمة أخلاقيّة أو شرعيّة أو إنسانيّة قام به الفاعل حماية واستنجاداً لقيمةٍ أخرى وهي المتمثّلة في الغاية.
إذا كان المثل السابق موطن جدال ونقاش، فالعجيب فيما نراه اليوم والذي أستطيع أن أصفه بـ" الوسيلة ترّر الغاية "، طبعاً هذه المقولة يرفضها كل عقل بدهيّاً ولكن صدّق أو لا تصدّق فهي كثيراً ما تطبّق من غير أن نشعر، وعلى هذا سأضرب مثلاً في حادثة مررت بها اليوم، حيث وصلتني رسالة من إحدى الأخوات على الـBBM والتي تعرف بالـBroadcast، الرسالة تحتوي على صور وهي تحت عنوان ( عندما تحاول البنت الهروب من المدرسة - إلي قلبه ضعيف لا يطالع ) شخصيّاً رأيت أنّ قلبي قوي ففتحت الصور، وهنا الطامة، الصور كانت عبارة عن فتاة عارية قد دخل في مؤخّرتها حديدة مبوّزة من نهاية سورٍ ما وخرجت من ظهرها! حسناً.. قلبي قوي على المنظر الدموي ولكن!! كيف لفتاة أن ترسل لي - أو حتى لغيري - صورة فتاة عارية! علماً أن علاقتني مع هذه الأخت مبنيّة على الإحترام! وأنا متأكد أن الصورة لو كانت مطبوعة وكنا نجلس سويّةً لم تجرؤ على أن تظهرها أمامي البتّة، فما كان منّي إلا أن عاتبتها بلسان جاف وبادَرَت بالإعتذار بعد أن تحسّست صدمتها من كلامي لها، وأكاد أجزم أنّه لا أحد في قائمتها استنكر إرسال مثل هذه الصور الخليعة.
السؤال هو كيف تجرّأت هذه الأخت بإرسال صورة فتاة عارية بهذه البساطة؟ والجواب هو " الوسيلة "..الـBroadcast.. عندما يكون المتلقي بعيدا عن العين تسقط كل الحواجز والإعتبارات النّفسيّة التي تمثّل سليقة الإنسان وفطرته الطبيعية في التصرف أمام الناس، عندها أوّل ما يسقط هو الحياء والخجل، فيقوم الإنسان بأعمال لا يجرؤ في الحياة الطبيعية أن يقوم بها أمام الناس، ومثال هذا كثير جداً، كالـfacebook والـSMS التي تجعل حوار الرجل بالمرأة - مثلاً - جريئاً إلى حد بعيد، لذلك نجد بعض الشباب الذين يتصيّدون الفتيات يفضلّون أن يبنوا علاقتهم بالـchatting بدايةً ليؤسّس علاقته بسهولة مع الفتاة ثمّ ينتقل إلى مستوى آخر كالمكالمات الهاتفية، وبالأخير إلى مستوى المقابلة، لأنّ تلك الفتاة حتى لو كانت في قرارة نفسها بعض الفضول للتواصل مع الجنس الآخر فإنّها لن تقبل من الشاب أن يبادرها رأساً من البداية بالمقابلة! ستمانع بردّة فعل طبيعيّة تناسب فطرتها وسليقتها الأخلاقيّة، والحديث هنا عن الفتاة متوسّطة الأخلاق في مجتمعنا، لا المثاليّة ولا النابية.
نحن في زمن قد يعلم فيه الرجل منّا أنّ قريبته لديها ربّما ٢٠ أو أكثر من المعارف الشّبابيّة ولا يرى فيها خطورة أو مشكلة، لماذا؟ لأنّ هؤلاء الشباب هم معارف على الـfacebook.. فقط facebook، وكأنّه ليس واقعاً أذ يعيش خلف الشاشة رجل بشاربٍ ونفسٍ ذكوري، في حين أنّه لو رأى قريبته في الشارع أو أيّ مكانٍ عام تتحدّث مع شاب غريب، وتبادله ضحكة الصوت بدل ضحكة الـ( لووووول) قد تثور ثائرته، بذلك نعرف أنّ الوسيلة قد تسهل الصعب وتقرب البعيد بإسقاطها للكثير من الحواجز النفسيّة.
أنا في حديثي السابق لا أحكم على الأمثلة التي قدمتها إن كانت صحيحة أو خاطئة، إنّما أعرض واقعاً نعيشه، واقعاً يبقى محلَّ نقاش، وللقارئ الحكم وفق مبادئه ورؤاه.
في النهاية أترككم للاستماع للطريفة في نهاية هذا المقطع، وبالتحديد في الدقيقة  ٣.٤٢ :

( ملاحظة : الطفل الذي احترق وجهه في حالة جيّدة والحمد لله، إذ كانت الحروق سطحيّة ) 

الثلاثاء، 24 أغسطس 2010

تَرِفْ حيل

 بسم الله الرحمن الرحيم
     أضع بين أيديكم سلسلة من الأبوذيات بما يشبه فن الزّنجيل العراقي، وهذا نزولاً عند رغبة المحبين من الأهل والأصدقاء، والذين أصروا علي أن أنشر شيئا من أبيات الأبوذيّة التي أكتبها، وعلى رأسهم ابن خالي المعرس الجديد يوسف المؤمن، سائلاً الله تعالى أن يوفقه ويبارك له في حياته الزوجيّة وأن يرزقه الذرية الصالحة، بحق هذه الليالي المباركة ونحن على مشارف ليلة ميلاد السبط الأول أبي محمد الحسن (عليه السلام) وهي الليلة الإحتفالية المعروفة في بلاد الخليج بالقرقيعان، حيث نشأ هذا العرف من مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) احتفالاً بسبطه الأوّل واستمرّ إلى أيامنا هذه.

التّرف ما هو ترف مظهر .. تَرَف حيل
يا غض يا املس يا ناعم يا تَرِف حيل
من أذكـــر بالغِنِـج عـينك تِرِف حـــيل
ترف روحي وأشــــد بســمة غـــبيّــة

أبــد لا تــعجب إن روحـي ترف ليك
وسبحان إلّي حــط كــل التَّرَف لــيك
معـاك أحسّنِـــي راكـــب تــــرفليــك
مــعــلّق بــالــهــوا وخـــــايـــف عليّه

ترى فليك "flacke" اصبعك نوع بريطاني
غرامك جوّه قلبـــي إبــــره اطّاني
رطانـــــك مـــا قنعــته إبـــرطاني
حســـــاويّـة أمّــي وأمك فـارسيّة

صدق عرجي من أمّي مِالحساوي (من الحساوي)
عشانك أنكر أصلي .. ما الحساوي؟
عســل فــي خمرة زائد ملح يساوي
مــقاديـــــــرك وهـــي مــــو منطقيّة

مــــقاديـــرك صِنِـــع فـارس والكويت
إلك في خاطري مطـرح وإلك weight
تريـــــد تعوفـني وترحــل! ولـك wait
إخـــذني ويــــاك خــل نــرحـل سويّة

إخـــــذني دنيــتي بـــك مــالي عـنها
إذا زولــــك تــركــــــها ومـــال عنـــها
ولســــــاني بـــعــد عـــينك مــا لعنها
أقـــــص إلسـاني بـس ترضى عــليّه

أقصّــــه لـــــــو يـردّك لـــيَّ قـــــــصّه
يا من لك من شروق الشمس قِصّة (مقدمة الرأس)
بالله عليــــك قصتي ويـــاك قــــصـــة؟
روايـــــة تـعـنـونـت باسـم الأذيّـــــــــة

الأذيّــــة متـعـتـي مـنّك والأفـــــــــراح
ألف قـد جانــي مـن قبـلـك وألــف راح
أفطـــر قلـب .. أكسـر عين .. ألف راح
فـــقـــط إنـــت إللــــويت اثـــنين إديّـــه

لويت إيدي وتـــقلّـــــي مـــا حصل لي!
تعـــال إلـــوي .. أعــوفك!؟ ما حـصلّي
إذا الله مــا جمــعـنا مـــــا حــأصـــلّي
تكـــفّر فـــرقـــتـــك كــــل ذنـــــب لــــيّه

شـفارق يالبـــــدالك مــــا بــــــدا لــــي
ولا أرضــــى يـــاخــــذك واحــد بدالي
بألْفـــــي بحائـــيِ بــميمـي بــــدالـــي
بـكــل أحــمــد أحـبّـــك مـــيّـــة مــــيّـــة

أحــبّـــك واطلب إيـــدك .. ما انعم إيدك
بخطبك بـس دلنـــــي مـــــن عــــميدك؟
بقـــلّه إنــــي بغــــرامـــك مـنعــمي دك
أبــكـــسـر خــاطــره ويــشــفـق علــــيّه

أبــــــكســـــــر خــاطره لــو فاد كسره
يـا هــــالــوارث غــرور وجــاه كـــسرى
قــســـم بـاللـــه وتـحــت الهــــاء كسرة
أحبّـــــك وأنــدبــــك صبـــــح ومســــيّة

علــــيك أنـــــدب هــــذاك الحـظ وأنـحب
خطيّة هــواي أحــب لــكن مــا أنــحـــب!
يجـــوز يحــبنــي مـقــرود، وإن حـــــب
هَلَــه البــطــــران مــــــا يرضـــون بيّـــه

ملاحظة: الرسمة في صدر الموضوع عملٌ من إبداعات الفنّانة الرسامة إيمان مالكي http://www.imanmaleki.com، وهي بعنوان (فتاة قرب الشبّاك).

الثلاثاء، 3 أغسطس 2010

إِلى أَهْلي

   بسم الله الرحمن الرحيم

     بداية أعتذر من أعزتي متتبعي المدوّنة على انقطاعي الذي دام فترة طويلة من الزمن، وذلك بسبب انشغالي بالدراسة، وأنا الآن أكتب هذا الموضوع وأنا في الأشرفية في قلب بيروت، وتطل نافذة غرفتي على ساحة جامعتي جامعة القديس يوسف، حيث مشاعر الإنتماء والدفء تحتضن مشاعر التعب والتململ، ولازلت في هذه الأيام منشغلاً في تقديم امتحاناتي النهائية.

    أثناء فترة الدراسة هنا، تعرفت على نخبة من الأصدقاء من الكويت والخليج والوطن العربي وأوروبا وأمريكا، ولعلي أكتب موضوعا خاصا بهذه العلاقات التي تملؤها الموّدة، متمنيا أن تدوم للأبد. وفي ما يخص هذا الموضوع فقد تعرّفت على البروفيسور أهيف سنّو والذي كان له الفضل الأكبر في هذه الدورات التعليميّة المكثّفة، وقد أعجبت بهذه الشخصيّة الفذّة، بل وتعلقت بها على المستويين العلمي والإنساني، حيث صارت علاقتي به علاقة الابن بالأب فضلًا على علاقة التلميذ بالأستاذ.
     وقد نظمت هذه القصيدة في شخصه الكريم بشكل عفوي، إذ كان توجّهي أن أكتب رسالةً على شكل قصيدة لأرسلها لأختي - وهذا ما يفسر مطلع القصيدة - ولكنها انتهت بما انتهت عليه، وهذا نص القصيدة التي عنوانها "إلى أهلي" وأعتذر على سوء الإخراج.

إِلى أَهْلي

أُخَيَّ عَلَيَّ إنْ جَدَّ الصَّباحُ               تُصَبِّحُني كَما تُمْسي الجِراحُ

كَأنَّ الكَوْنَ حَوْلِي في حَراكٍ               وَما في القَلْبِ يَجْهَلُهُ البَراحُ

تُسَلِّحُني الوَقائِعُ للدَواهي               وَللأَحْزانِ لا يُجْدي السِّلاحُ

إذا هَبَّت رِياحُ الشَّوقِ نَفْحًا               فَعَلِّمْني بِما تُجْدي الصِّفاحُ؟

أَمَرُّ الأَمْرِ للإنْسانِ طُرًّا               بِأَنْ يَغْلو عَليهِ المُسْتَباحُ

وَإنَّ العُمْرَ لَوْ فَتَّشْتَ وَصْفًا               حُدوثٌ ثُمَّ يَخلِفُهُ رَواحُ

 فَما طولُ الرَّجاءِ سُوى فَسادٍ               وَما بَعْدَ المُكوثِ هُوَ السَّراحُ (١)

وَما خَيْرُ الحَياةِ بِطولِ عَيْشٍ               ولكن أنْ يُعايِشَها الصَّلاحُ

وأَيْمُ اللهِ أَصْلَحُ كُلَّ شَيْءٍ               عُلومٌ عِنْدَها يَحْلو الكِفاحُ

وَإنْ أنْسى فَلَنْ أَنْساهُ شَيْخًا               لَهُ لَحِقَتْ سَفينَتِيَ الرِّياحُ

سَنَحْنَحُ (٢) مَعْهَدِ الآدابِ قِدْمًا               وَمَنْ لَوْلاهُ ما خُلِقَ النَّجاحُ

وَبَحْرٌ للمَعارِفِ غُصْتُ فيهِ                     وَلكِنْ ماؤهُ عَذْبٌ قَراحُ (٣)

لِـ"أَهْيَفَ" صاحِبِ المَلَكاتِ أَرْمي               وَمَنْ مِنّي لَهُ خُفِضَ الجَناحُ

أَتَيْتفكَ جاهِلاً وَالجَهْلُ عَيْبٌ               بِأمْرٍ عَنْهُ قَدْ كُشِفَ الوِشاحُ

بِأنَّ العِلْمَ لَوْ قَدْ كانَ دينًا               فَقَوْلُكَ في مَناهِجِهِ الصِّحاحُ

وَأنْتَ الغَيْثُ إنْ عَفّاهُ جَدْبٌ               وَأَنْتَ الزّادُ إِنْ حَلَّ المُحاحُ (٤)

وَأنْتَ دَواؤُهُ إِنْ يَشْكُ داءً               وَأَنْتَ لَهُ بِوَحْدَتِهِ مِراحُ
دُعاةُ العِلْمِ هُمْ للعِلْمِ قِشْرٌ               وَأَنْتَ لِلُبِّهِ آحٌ وَماحُ (٥)

فَلَوْ بَلَغوا خَواتِمَ كُلِّ عِلْمٍ               خِتامُ عُلومِهِم لَكَ الافتِتاحُ
أَبٌ سَهْلُ الخَليقَةِ حينَ يُرْمى               عَظيمُ الصَّبْرِ بَطْشَتُهُ السَّماحُ

لَهُ جِدٌّ إِذا أَبْداهُ يُخْشى               وَمُذْ يُخْشى تَغَشّاهُ المُزاحُ
بِمُتْعَةِ دَرْسِهِ أُنْسٌ لَذيذٌ               وَنَشْوٌ لا يُضاهيهِ النِّكاحُ

إذا قالَ انتَبِهْ أَسْمِعْ وَأَنْصِتْ               يَحُفُّكَ في المُسابَقَةِ ارتِياحُ
     وَأَسْتَجديهِ بِالإلحاحِ حَتّى               يَحُكُّ بِبَوْحِ حُنْجَرَتي بَحاحُ (٦)

عَبيدُ المالِ قَدْ طَمَحوا لِحَظٍّ               فَمالَ الحَظُّ دونَهُمُ وَطاحوا(٧)
وَتُخْفَضُ في سُؤالِ المالِ راحٌ               وَتَعْلو في سُؤالِ العِلْمِ راحُ (٨)

مَقامُهُ لَوْ إِليْهِ قَصَدْتُ مَدْحًا               فَلا يَسْمو لِرِفْعَتِهِ امتِداحُ
فَقُلْ للاّئمينَ لَهُ مَديحي               لِحُبّهِ وَيْكَ يُطْرِبُني النُّباحُ

وَمَنْ يَصْحَبْ مِنَ الدُّنيا خَليلاً               يَجيءُ بِقَدْرِهِ خِلٌّ وَصاحُ
كَما قُرِنَ الأَميرُ بِبِنْتِ طهَ               مُسَيْلَمَةٌ حَليلَتُهُ سَجاحُ

فَخُذْ "هِبَةَ" الإلهِ عَساكَ تُجْزى               لِطيبِ الوَرْدِ يُنْتَخَبُ اللِّقاحُ
أبا "تالا" وَأَصْلُ النّورِ شَمْسٌ               بِلالٌ لَمْ يَكُنْ لَوْلا رَباحُ

لِرَوْحِ العِلْمِ دُمْتُمْ "آلَ سِنّو"               بِكُم وَبِمِثْلِكُمْ حُيَّ الفَلاحُ

قَريحَةُ شِعْرِيَ الهَيْجاءُ طاشَتْ               وَفي أعْتابِكُمْ كُبِحَ الجِماحُ
إِذَنْ حانَ الفِراقُ فِداكَ نَفْسي               وَلَيْتَ اللّيلَ يَقْتُلُهُ الصّباحُ

وإنْ يَبْدو عَلى وَجْهي ابتِسامي               ففي الأحشاءِ يَقْتُلُني النُّواحُ

تُصَبِّرُني مَواعيدٌ سَتأتي               وَأيّامٌ مُخَلّدَةٌ مِلاحُ

إمامي لَيْسَ قَوْلي قَوْلَ قَوْمٍ               مَصاحِفُهُم تَهادَتْها الرِّماحُ

لِزَيْنِ الدّينِ أَحْمَدَ سَوْفَ تَبْقى               وَذِكْرُكَ في فَمِ الدّنيا صُراحُ


٢/٨/٢٠١٠
 بيروت - الأشرفية، راس النّبع




وهذه أبوذيّة بسيطة في حق أحبتي زملائي في "المنهجية العامة":
نَهِج غيــر الوفــا والــود..ما انهج
مع مــن واصل الدّورة.. ومن هــج
إنذبحنـا حاشية.. تدويـن.. منهج
ومع أحبابي تــهـــون المنهـجــيّـة
__________________________________________________________________
(١) السّراح : الطلاق، الإرسال والإبتعاد.
(٢) سنحنح : الرجل السنحنح هو الذي لا ينام الليل.
(٣) قراح : صافٍ خالص.
(٤) المحاح : الجوع.
(٥) الآح والماح : بياض البيض وصفاره بالترتيب.
(٦) بحاح : البحّة، وهو غلظ في الصوت وخشونة.
(٧) طاحوا : هلكوا
(٨) إشارة إلى أن الشحاذ يبسط كفه إلى الأسفل عند الإستجداء، وطالب العلم يرفع كفه إلى الأعلى عند السؤال.

الاثنين، 31 مايو 2010

فيلم "Prince of Persia" يتمنى العودة بالزمن



   على خطا فيلم Pirates of the Caribbean المأخوذ من لعبة تحمل نفس الاسم، أنتجت شركت والت ديزني الشهيرة فيلمها الجديد المأخوذ من اللعبة الشهيرة Prince of Persia أو "أمير بلاد فارس" للمخرج مايك نيويل صاحب رائعة سلسلة "هاري بوتر" وبطولة جاك جيلينهان وبين كينقنسلي وجيما أرتيرتون وغيرهم ممن ترك بصمته في هذا العمل الرائع.

    جزء من أجزاء اللعبة المقتبس منها العمل: 
    - ملخص قصة الفيلم: 
    تدور أحداث الفيلم في القرن السادس حيث تتمتع بلاد فارس ببلوغ حضارتها إلى أقصى قمم العظمة على مستوى العالم، ملك هذه الدولة لديه ابنان من صلبه وابن متبنى من عامة الشعب، وقد زرع فيهم الملك قيم النبل والخير، الابن المتبنى اسمه (داستان) وهو بطل الفيلم الذي تربطه بأخويه وأبيه وعمه (نظام) علاقة وطيدة من المحبة والإحترام.
    وفي يوم من الأيام أشار العم (نظام) على أكبر الأبناء والمرشح لخلافة أبيه الملك بغزو المدينة المقدسة "ألاموت" وهي مدينة حقيقية يذكرها التاريخ وهذه إحدى صورها حاليا وتبدو طللا لمدينة عفا عليها الدهر:
 http://farm4.static.flickr.com/3614/3681109484_0c305dd899.jpg
     أما الدافع الذي أقنع العم به ابن أخيه للغزو فهو أن في هذه المدينة تصنّع فيها الأسلحة لمحاربة الفرس، فغزاها واحتلها وأراد أن يتزوج من أميرة المدينة الحسناء  (تامينا)، ولكن ملك فارس شاء أن يزوج هذه الأميرة لابنه المتبنى (داستان) والذي كان بطل المعركة والذي أصبح يلقب من يومها أسد فارس، وفي هذه الأثناء ومع احتفال الملك بنشوة النصر، دبرت له عملية اغتيال محكمة ولفقت تهمة الاغتيال لابنه (داستان) والذي اضطر للهروب بصحبة الأميرة ومن هنا تبدأ المغامرات المتوالية عليهما، بين محاولتهما لإنقاذ العالم وذلك باسترداد ما سلب من مدينة "ألاموت"، وبين الهروب من القتلة المأجورين الذين يحاولون قتل (داستان) وكل من يجيره.  في حين يتبين أن القاتل كان العم (نظام) والذي تسبب بغزو مدينة "ألاموت" لسرقة ثروتهم التي أهدتها لهم الآلهة وهي ساعة رملية من شأنها أن ترجع الزمن للوراء وكان هدفه من ذلك أن يرجع الزمن حتى حادثة قديمة أنقذ فيها حياة أخيه الملك من نمر متوحش، وبتغيير هذه الحادثة وترك أخيه يلقى حتفه كان ليصبح هو الملك في هذا الوقت! ولكن الخطورة تكمن في محاولة ارجاع الزمن مدة زمنية طويلة كهذه، لأنه كما تقول الأميرة سيكون ذلك كفيلا لنزول لعنة الآلهة علي الأرض ونهاية العالم.
    لكن يتمكن (داستان) بمساعدة الأميرة وبعض الأصدقاء من التصدي لعمه الخائن واستطاع استخدام هذه الساعة الرملية السحرية ليرجع بهم الزمن حتى بداية احتلال المدينة ليفضح عمه (نظام) قبل قتل الملك فيقوم خليفة الملك وابنه الأكبر بتقديم الإعتذار الرسمي للأميرة على احتلالهم مدينتهم باتهام عمه المزيف وهو تصنيعهم للأسلحة ومن ثم ينتهي الفيلم بنهاية سعيدة وهي زواج (داستان) بالأميرة بعد أن وقعا في حب بعضهما البعض.
   - مدخل
    يبدأ الفيلم بتصوير قصر ضخم جميل، تميزه الأبراج العاجية البيضاء والمزينة بالقباب الذهبية اللماعة..حسنا هذا القصر ليس غريبا علي! خاصة وأني أشاهد فيلما من إنتاج ديزني! لقد كان القصر شبيها بقصر السلطان في الفيلم الكارتوني الشهير "علاء الدين" بدرجة كبيرة..ولكن قلت في نفسي لابد أنها صدفة..إلى أن دخلنا في المشهد الأول، والغريب أن المشهد الأول من الفيلم وبنسبة ٩٠٪ يجسد مشهدا في بداية فيلم "علاء الدين" وهو هروب الطفل (داستان) - الذي يرتدي زيا لا يختلف عن زي علاء الدين إلا بالقبعة - من حرس الملك بطريقة مثيرة ومضحكة، حيث يقفز من سطح إلى آخر ويتغلب على كل الحراس المسلحين بحركاته البهلوانية..تماما مثل هذا المقطع: 

    لا يخفى أن سبب إنعاش الذاكرة في هذا المدخل إنما ينم عن تعلقي بشخصيات ديزني منذ الطفولة، ومن من أبناء جيلي لم يسحر بتلك الشخصيات؟ حتى أنني ما زلت أحن لزيارة مدينة ديزني..تلك المدينة التي ما إن أدخل بوابتها إلا وأرجع طفلا صغيرا لا تفارق البسمة محياه..مدينة الخيال والألعاب، السر في تلك المدينة ليس في الألعاب إنما في الجو العام للمدينة التي تعطيك إحساسا سحريا بالإنتماء إلى عالم آخر.
    - الإسقاط السياسي المكشوف
    اسقاطات الفيلم كانت واضحة جدا مما لا يدع مجالا كبيرا للتأمل والتدبر في معطيات القصة، الدولة العظمى في ذلك الوقت تغزو على مدينة مقدسة بحجة تصنيعها للأسلحة، فيتضح أن الأسلحة المزعومة لا وجود لها وإنما هناك ثروة غير عادية يستهدفها الرأس المدبر لهذا الغزو! تماما كما حدث في زمننا المعاصر، فالدولة العظمى في زماننا هي أمريكا، والمدينة المقدسة في العراق وما أدراك ما العراق وما حضارة العراق وما قداسة العراق، العراق الذي يعتبر مقدسا لكل الأديان والملل والمذاهب، ولأقدس ما يضم العراق ضريح أمير المؤمين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النجف الأشرف، وضريح الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه في كربلاء المقدسة. 
    لكن السؤال هنا، ما هي الثروة التي تريدها أمريكا من العراق؟ الفيلم يصور هذه الثروة بساعة رملية ترجع الزمن إلى الوراء، وتفسير هذا يأتي لاحقا، أما ما أرادته أمريكا من العراق فعلا فأعتقد تحديده ليس سهلا! هل هو النفط؟ هل حقا تحتاج أمريكا للنفط كل هذه الحاجة؟ والدول النفطية تحت إمرتها بل أن الأمريكان تقدموا بالعلم حتى أنتجوا مصادر طاقة جديدة ومطورة تغنيهم عن النفط متى شاؤوا، هذا التساؤل يذكرني بمقطع جميل لخطيبي المفضل الشيخ جعفر الإبراهيمي، ولعل أهم ما في المقطع من الدقيقة ١.١١ حتى الدقيقة ٢ بالتحديد:
    في الواقع ليس الشيخ جعفر محللا سياسيا حاذقا ونحن نحترم التخصصات، ولكن في كلامه ما يعبر عن كلامي بلسان أفصح ليس إلا.
     - رأي المبدع
    المبدع بعد أن يضع اسقاطاته ليمثل مجريات حرب العراق، بعد ذلك يدلو بدلوه، ويضع لمسته وما يعتقد أنه الصواب. المبدع يقترح ويتمنى أن يعود الزمن إلى بداية احتلال العراق ليتقدم رئيس الجيش الأمريكي تماما كما تقدم رئيس الجيش الفارسي وخليفة الملك باعتذار رسمي لأنه غزا المدينة لسبب واهٍ لا أصل له، فكأنه يتمنى لو أن الأمريكان عملوا بهذه الطريقة واعتذروا للشعب العراقي فور اكتشافهم أكاذيب أسلحة الدمار الشامل وينصرفون إلى بلادهم، وهنا أتساءل لماذا لم يرجع الزمن في الفيلم حتى اليوم الذي سبق الغزو؟، أي حتى الليلة التي كان يتناقش فيها الأمراء الثلاث وعمهم نظام! لكن يتبين أن هناك مصلحة، أولا أن يتبين الخائن وهو العم (نظام) وأن يقتل يومها فيوضع حد لانقلاباته وخططه، وثانيا حتى يجتمع الحبيبان (داستان) والأميرة. ولعل إذا قسناها على الواقع الحقيقي فهناك مصلحة أيضا بدخول الأمريكان للعراق وهي بلا شك إسقاط الديكتاتور الطاغية صدام حسين، وهذا له من الخيرات ما يعترف به الشعب العراقي والشعوب المجاورة له. وهناك في مجال الكشف عن كذبة أسلحة الدمار الشامل طرحٌ جميل يطرحه فيلم the green zone والذي يضع النقاط على الحروف ويكشف خللا في جهات معينة في النظام الأمريكي وهذا ما ينتحدث عنه في رمزية الأسماء.
    - الدلالة الرمزية لأسماء أهم الشخصيات
     الأسماء كانت فارسية بطبيعة الحال، البطل (داستان) ومعناه قصة، أو رواية. هذا البطل الذي كان يسعى طوال الفيلم أن ينقذ العالم وأن يصحح الأوضاع السياسية بل وبالأخير يعود بالزمن ليصلح ما كان يجب إصلاحه سابقاً القصة تريد العودة لتقوم بالتغيير، وهنا تفسير أكثر لما تحدثنا عنه سابقا. أما الشخصية الشريرة فاسمها (نظام) طبعا المعني بالفارسي والعربي واحد كما هو واضح، وهنا أرى الضربة الأقوى، نعم الخلل في النظام نفسه، أو بالتحديد في عناصر معينة في النظام، وهذا ما كان في الفيلم أيضا لأن شخصية (نظام) تمثل شخصية المستشار الأقرب للأمراء والملك وهو الأقرب لهم حتى في صلة الدم، وللذي شاهد فيلم the green zone يفهم الخلل الحادث في النظام الأمريكي في بعض الشخصيات وكيف أن هذه الشخصيات كانت ترسم خرائطا لمواقع تصنيع أسلحة الدمار الشامل ولكن يتضح بعد ذلك أن هذه الخرائط كانت كلها مفبركة وكاذبة لا أساس لها من الصحة..تماما كصاحبنا (نظام).
    - نقدا للسياسة الأمريكية في الداخل والخارج
    أما نقد السياسة الخارجية لأمريكا فقد سبق شرحها،  وفي ما يخص الشأن الداخلي فقد خصصت شخصية طريفة شغلها الشاغل انتقاد الوضع الداخلي، وهو (الشيخ عمر) والذي قام به الممثل ألفريد مولينا بإتقان، (الشيخ عمر) يتذمر من الضرائب المفروضة على التجار ويشتكي من الوضع الاقتصادي بشكل عام بطريقة مستمرة، حتى أنه خرج من الدولة إلى إقليم مهجور ليتنفس الصعداء بعيدا عن التضييق الخانق علي رقاب التجار، ومن خلال متابعتنا المتواضعة للبرامج الأمريكية نستطيع أن نفهم عما يتكلم (الشيخ عمر).
    - الرسائل العامة في الفيلم
    يتحدث الفيلم عن إعادة الزمن وتصحيح الأخطاء والاستفادة من تجارب الماضي، لن نحتاج لساعة رملية لتعيد لنا الزمن، المثل يقول "الزمن يعيد نفسه"، صحيح..فالتجارب والمواقف لا تمر على الإنسان مرة واحدة، وعليك التعلم من أخطائك واتخاذ الموقف المناسب بل والإصرار عليه إذا رأيت الحق فيه، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) "كونوا للظالم خصما وللمظلوم عونا"، (داستان) تهاون في الوقوف بوجه أخيه ومنع الحرب ما أدى إلى وقوع كارثة كادت أن تودي بحايته بل بنهاية العالم أيضا.  
    قالت العرب قديما "رب أخ لم تلده لك أمك" هكذا كان (داستان) لأخيه الأكبر، كان أحرصهم على مصلحته، وعلى ملكه وملك أبيه، العلاقة المميزة بين الإخوان الثلاثة والمبنية على الثقة العجيبة إلى درجة أن (داستان) يقتل نفسه وينتحر لثقته العمياء بأخيه الذي سيعيده للحياة خلال دقيقة من الزمن، هذا الترابط الذي تكلم عنه الملك الأب وشبهه قوته بسيف الدولة الذي يذود عنها ويضمن حمايتها ما داموا متماسكين. إذاً رابط الروح أحيانا يكون أقوى من رابط الدم، فالعم (نظام) شقيق الملك وعم الأمراء الوحيد كان يتربص بهم ويخطط للقضاء عليهم، في حين أن الصبي الذي ألتقط من عامة الشعب في سوق وسط البلد كان هو الحامي عنهم والمرجع لهم حقوقهم حتى وهم يحاربونه عن جهل كان هو يسعى لتبرئة نفسه لمساعدة إخوانه والانتقام لأبيه الذي تبناه وأعطاه الحياة الكريمة.
     في النهاية أرى أنه فيلما ممتعا في الدرجة الأولى وتميز بالتصوير الخيالي المقنع، والخيال أجمل ما يميز شركة ديزني، فيلم "أمير بلاد فارس" يحمل معانيا إنسانية وإسقاطاتا سياسية يقدمها في قصة جميلة وأحداث مثيرة تحتوي على الكثير من المغامرة والتي تعيش معها منذ بداية الفيلم حتى نهايته في رتم سريع لا تعرف معه الملل.

الثلاثاء، 11 مايو 2010

أسطورة الكوميديا اللبنانية!


    مع اقتراب رحلتي الدراسية للبنان، أصبح اطلاعي على المستجدات اللبنانية شغف مؤنس، حتى أصبحت أتلذذ بسريان اللهجة اللبنانية الحلوة على لساني، وأنجذب للقنوات الفضائية اللبناينية، وأفقد أعصابي بمتابعة التطورات السياسية اللبنانية، ويتفطر قلبي لمصائب الشعب اللبناني الحبيب، وأتابع الفنون اللبنانية بتمعن، وأخيراً..يغشى علي من الضحك بالكوميديا اللبنانية!! لاسيما بعد أن تعرفت على أسطورة الكوميديا اللبنانية "فادي رعيدي"، لذا أحببت أن أنقل لكم ضحكاتي بمتابعة ثقيل الوزن وخفيف الظل "فادي رعيدي"، مع العلم أن بعض النكات لا يفهمها إلا المطلع على الوضع السياسي اللبناني.
ملاحظة: من المعلوم أن المجتمع اللبناني متحرر أكثر من المجتمع الكويتي لذا هناك بعض الألفاظ التي قد تخدش الحياء، وعلى هذا الأساس سأضع علامة +١٨ للمقاطع التي تحتوي على إيحاءات لا يستسيغها البعض.
وفي الأخير تحية كبيرة لصديقي إيلي ساركيس وأتمنى عودته من لبنان بالسلامة.

مقاطع comedy night سنة ٢٠٠٨:

الأوضاع السياسية + الزواج

تابع الزواج

فادية الشراقة بمن سيربح المليون +١٨

تابع +١٨

مقاطع comedy night سنة ٢٠٠٩:

الإنتخابات والأحوال الأمنية والقضايا اللبنانية

الزواج

pipo في عيادة د.مارون

تابع

فادية الشراقة مع المختار

الخميس، 15 أبريل 2010

فيلم "Remember me": عرض الإرهاب على طريقة رونالدينيو!


    فيلم "remember me" أو "تذكرني" للمخرج Allen Coulter، يصنف كفيلم دراما رومانسي، أبدع في تجسيد دور البطل الممثل الشاب  Robert Pattinson والبطلة الممثلة الشابة Emilie de Ravin، كما شارك في التمثيل الممثل الكبير Pierce Brosnan، الطريف أن البطلين الشابين عرف كل منهما في دور واحد فقط، الأول في دور "إدوارد" في سلسلة أفلام "twilight" والثانية في دور "كلير" في سلسلة المسلسل الخيالي "LOST" الذي يعرض موسمه الأخير حاليا. الفيلم فيه من الإبداع ما قد يميزه عن جميع أفلام الدراما التي عشت تجربتها من حيث الموضوع وطريقة الطرح والمعالجة، ومناقشته لعدة مواضيع اجتماعية داخلية دون أن يشتت المشاهد، والعمق الذي يفتح أبوابا لإبداع الناقد في التحليل، والتأثير العاطفي القوي.
    أتمنى من قارئ المقال أن يكون قد سبق وشاهد الفيلم لكي يتذوق معي ما تذوقته من هذا العمل الفني، وإن لم يفعل فهو الخاسر الأكبر، وقد أدرجت ملخصاً لقصة الفيلم لهؤلاء الخاسرين.

    ملخص قصة الفيلم
    يبدأ الفيلم بداية دراماتيكية عنيفة ومؤثرة، إذ تظهر امرأة في الثلاثينيات تلاعب ابنتها الصغيرة بعمر الخمس سنوات في محطة قطار في مدينة نيويورك ليلاً، وفي تلك الأثناء يتهجم عليها شابان مسلحان ويسرقا ما تملك من نقود وحلي ثم يصعدان إلى القطار، يُغلَق الباب وأحد الشابين يقابل المرأة وجها لوجه خلف النافذة..وبعد ثوان يَفتح باب القطار ويطلق النار عليها ليرديها قتيلة بين يدي طفلتها المفجوعة، وبعدها يحضر زوج القتيلة وأب الطفلة اليتيمة فيتبين أنه شرطي.
    بعد ١٧ سنة يظهر البطل "تايلر" والذي انتحر أخوه الأكبر "مايكل" شانقا نفسه قبل بضع سنين، ما يفسر الحالة النفسية السيئة التي يعيشها تايلر، فهو شاب ضائع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يداوم على حضور صفوف الجامعة دون أن يسجل بالمواد! شخصيته أنطوائية، لديه شغف كبير في قراءة الشعر، ولهذا لا تجده إلا في مكتبة الجامعة، وأهم صفاته - بالإضافة إلى التدخين المفرط - أنه يقصد أحد المقاهي يومياً ليكتب رسائلا إلى أخيه المنتحر "مايكل"، والجدير بالذكر أن هذا المقهى هو آخر مكان تقابل فيه الأخوان باليوم الذي شنق فيه "مايكل" نفسه.
    في أحد الأيام يذهب مع رفيقه بالسكن وصديقه الوحيد إلى إحدى الحانات أو النوادي الليلية، وبعد خروجهما من النادي برفقة فتاتين يشهدون اعتداء شخصين على شخصين آخرين لسبب تافه جداً بالضرب المبرح، وهنا تبرز خصلة نبيلة من خصال البطل "تايلر" إذ قام بنصرة المظلومَيْن والدفاع عنهما؛ ملقنا المعتدين درسا قاسيا بفنون ضرب الشوارع. بعد ذلك تجيء دورية الشرطة بقيادة الشرطي الذي تعرفنا عليه أول الفيلم، فيكتفي بالصراخ بوجوه المشاركين في العراك ليحررهم بعد ذلك! ما دفع "تايلر" إلى الإستنكار ومحاولة إقناع الشرطي بإيقاف المعتدين وإدخالهم السجن المستحق..ولكن بطريقة متمردة حملت الشرطي على ضربه وإدخاله هو السجن! برفقة صديقه.
    يقوم والد "تايلر" الرجل الغني صاحب الشركة الكبيرة والذي تجمعه علاقة سيئة جدا مع ابنه، بدفع كفالة "تايلر" وصديقه مخرجا إياهما من السجن.
    يتعرف "تايلر" على ابنة الشرطي "آلي" والتي تدرس معه بنفس الجامعة بغاية استغلالها ليرد دين والدها الذي أهانه ويقوم بطعنه في ظهره..أي ابنته، ولكن بعد أن تقرب منها وقع في غرامها، ووجد فيها سببا كافيا ليغير بعض عاداته السيئة وليحب هذه الحياة ويتعلق بها بعد أن كان يكرهها ويجد أنها ليست إلا واجبات تافة يقوم بها الإنسان.
    العلاقة الحميمة التي جمعت "تايلر" و"آلي" وصلت إلى ذروة الحب والسعادة ما أثر إيجابيا على حياته كلها، ولا سيما على علاقته الفاترة مع أبيه، ولكن والد "آلي" الشرطي -والذي هجرته ابنته نتيجة لخلاف ومشادة بينهما - وضع حدا لهذه العلاقة عندما عرف عنها ووصل إلى "تايلر" ليهدده بعد أن كاد يقتله في بيته، ما جعل "تايلر" يعترف لـ"آلي" بطريقة تقربه منها في بداية الأمر، وحاول إقناعها أنه أحبها حقاً لكن دون جدوى.
    رجعت "آلي" إلى بيت أبيها بعد أن مكثت في بيت "تايلر" فترة من الزمن، ولكن عندما قدم إليها صديق "تايلر" وشرح لها أنه صادق بحبه لها، اقتنعت وقررت الرجوع إليه في الوقت الذي ألمت حادثة مؤسفة لأخت "تايلر" الصغيرة والوحيدة مع صديقاتها، والتي يحبها "تايلر" حبا شديدا يصل إلى حد الغرابة، بل إن إهمال والده لأخته هذه "كارولين" هو السبب الأكبر في كرهه لأبيه.
    هذه الحادثة وحدت كل أفراد العائلة وأرجعت "آلي" إلى حبيبها "تايلر"، فـ"تايلر" قام بالدفاع عنها في المدرسة بطريقة قوية جدا، وأبوه رفع دعاوى قضائية على إدارة المدرسة وتقرب إلى ابنته، "آلي" التي قصدت بيت عائلة "تايلر" لتطمئن على أخته قابلته هناك والتم شملهما بالحب والود.
    في هذه الأجواء المثالية، وفي يوم كان يبدو جميلاً يملؤه التفاؤل في بدايته، وبينما كان والد "كارولاين" يوصلها إلى المدرسة، وابنه "تايلر" ينتظره في شركته الكائنة في ناطحة سحاب هي الأطول مع توأمتها في نيويورك، وبعد أن جلست "كارولاين" على مقعد الفصل، كتبت المدرسة تاريخ اليوم: الثلاثاء ١١-٩-٢٠٠١م! ذلك التاريخ الأليم..نعم ناطحة السحاب التي كان ينتظر فيها "تايلر" هي التي هوجمت في ذلك اليوم، ومات البطل "تايلر" نتيجة للهجمة الإرهابية.
remember me movie Pictures, Images and Photos
     شخصية البطل "تايلر"
    أول مشهد يظهر فيه "تايلر" يعطي انطباعا مباشرا عن هذه الشخصية، شاب يجلس بطريقة غريبة ومتهورة على حافة الشرفة، بيده الجعة، وفي فمه السيجارة والتي لم تفارقه طوال الفيلم.
    "تايلر" هو الشاب المفجوع بانتحار أخيه، والذي فقد الإحساس بالحياة من بعده، فهو انطوائي، يمضي نهاره في المكتبة، رومانسي ومحب للشعر، فاقد للمسؤولية إلى درجة بلغت به أنه يداوم في فصول الجامعة دون التسجيل في هذه الفصول! أي أنه لا ينتظر تخرجا ولا شهادة! وأهم ما يميز "تايلر" أنه لا ينفك من كتابة الرسائل لأخيه المنتحر "مايكل"، فهو يخبره عن كل ما يحصل معه يوميا.
    علاقات البطل محدودة بسبب انطوائيته، ولكن أجمل علاقة في الفيلم - كما أرى - هي علاقته الكاملة والرائعة بأخته الصغيرة "كارولاين"، وأقبح علاقة بالفيلم، علاقته العدوانية بأبيه، أما علاقته بحبيبته التي يتعرف عليها لاحقا فسنعرضها فيما يلي، ولكن باختصار "تايلر" شاب ضائع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.


Remember Me Movie Still Pictures, Images and Photos
    إيجابية صدمات الحياة 
    تتحرك الصدمات في الفيلم في نغمة منتظمة، وتظهر نتائج إيجابية من هذه الصدمات قد تكون أبرز من السلبية، ففي البداية صدمة قتل الأم على قلب الأب الشرطي، حيث تترجمت ردة الفعل في سلوكه بتكريس حياته لحماية ابنته كنوع من التعويض بسبب الشعور بالذنب. وفي صدمة انتحار "مايكل" نجد أخيه "تايلر" جاعلاً أخته "كارولاين" على رأس اهتماماته بالحياة ليعوضها عن تلك الصدمة، بل قد نلمس أن عملية انتحار "مايكل" صنعت من "تايلر" شخصاً مصلحاً، يصر على جريان القوانين والعدل في مجراها الطبيعي، لا يرضى بالفساد أو الإرهاب أن يقع على أحد إلا وردَّ عنه سواء كان يعرفه (مثل أخته) أو يجهله (مثل المعتدى عليهما في الشارع)، وتفسير ذلك أنه يشعر أن كسر النواميس الطبيعية العادلة في الحياة هي التي تسببت في انتحار أخيه، ولو كانت الحياة عادلة لما سمحت له بالإنتحار، وهذا يفسر رأيه في مقولة "غاندي" والتي سأتعرض لها لاحقاً.
    وفي الأخير والأهم بعد صدمة موت "تايلر" يعرض الفيلم بعض المشاهد تبين استمرارية محبيه وأهله بالحياة مع تحسن في بعض سلوكياتهم، فالأب صار أقرب إلي ابنته "كارولاين" أكثر من أي وقت مضى، و"كارولاين" تابعت حلمها في عالم الفن (الرسم) ويظهر شعرها وقد طال مرة أخرى في إشارة رمزية لاستعادة القوة وبناء الذات مرة أخرى، وصديقه يظهر في فصل دراسي وقد وشم عضده باسم "تايلر" فكأنه يستمد منه القوة للمثابرة في دراسته، وحبيبته اقتربت أكثر من أبيها حيث تظهر وهي تحتضنه بقوة.


    التطهير عند أرسطو
    تختصر نظرية التطهير - في الفن - عند أرسطو في إثارة الرحمة والخوف، وكلمة التطهير في الطب تعني مداواة الشيء بمثله، وهذه وظيفته الفنية في الحقيقة، فعندما يحرر الفن بعض الإنفعالات الضارة القوية قد يؤدي إلى اعتدالها والتخلص من شرورها، والفكرة هنا في معالجة الحقيقي الواقعي بشبيهه المتخيل غير الواقعي، نتذكر هنا بيت أبي نواس:

   دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ                 وداوني بالتي كانت هي الداءُ

فمثلا قد يعرض عمل فني وصفا متساميا للحب يدفع المشاهد المبتلى بنير حب واقعي أو رغبة منحرفة لممارسة الحب إلى التخلص منه. ويمكن علاج بعض المشكلات الإجتماعية المطروحة في الفيلم على هذا الأساس، خاصة في عرض العلاقة المتوترة بل المحتدة بين "تايلر" وأبيه، ففي بعض المشاهد يصل هذا الخلاف إلى أشده حتى كادا أن يتعاركا بالأيدي بعد أن عمل الصراخ عمله.
    فمن يشتكي فعلا من هذه المشكلة مع أبيه مثلا، يجد في تلك المشاهد متنفساً له ولمشاعره الضارة المكبوتة، مما يعدل نفسيته التي قد تؤثر على سلوكه. كما يظهر التطهير أيضا في علاقة "آلي" مع والدها والتي تقوم بهجره جراء التوتر الضاري بينهما، والسؤال هنا: مَن مِن المراهقين - من الجنسين - لا يواجه اصطدامات طبيعية مع والديه؟ لا سيما في ظل السيطرة العرفية الموروثة في المجتمع العربي.

    فلسفة "غاندي" وفهم "تايلر"
    ينقل "تايلر" في أول الفيلم مقولة لغاندي، ترجمتها: "كل ما تفعله بالحياة تافه، ولكن يجب القيام"، ويعقب "تايلر" أنه يعتقد بالجزء الأول فقط، وهنا يظهر الإضطراب في هذه الشخصية، فهو بعد فقد أخيه لم يعد يرى قيمة في الحياة، مع العلم أن بعض تصرفاته تتعارض أحيانا مع رأيه هذا، فهو لا يريد القيام بشيء لو أمكن، لا يريد أن يكون مسؤولا عن شيء، همه الوحيد أن يقضي وقته وحيدا بسلام وبلادة، ولكن بعد تعرفه على الفتاة التي أحبها "آلي" بدأ يشعر بتلك القيمة المفقودة، وأصبحت قيمة الحياة عنده أكثر وضوحا، فبعد أن كانت أفعاله غير مسؤولة، صارت هذه الفتاة محط رعايته واهتمامه، وكأنه مكلف بالإعتناء بها، ويظهر هذا التحول في شخصيته في آخر الفيلم عندما يكرر مقولة "غاندي" السابقة ويقرر الجزء الثاني منها! فيقول: "كل ما تفعله بالحياة تافه، ولكن يجب القيام به، لأن لا أحد غيرك سيقوم به، فعندما يدخل أحد حياتك نصفك يقول أنا لست مستعداً، ونصفك الآخر يقول أريد أن أكون معه للأبد..." هنا يجب أن يقوم بعمل إن أراد أن يكون مع هذا الشخص للأبد، نعم عندما دخلت "آلي" حياة "تايلر" كان على تايلر أن يقوم بعمل ليتمسك بها، والدافع الأول والقيمة الأولى هنا هي الحب.
    التحدث مع الميت!
    بعد انتحار "مايكل" كان "تايلر" يداوم على كتابة الرسائل إلى أخيه، ومرة قال لـ"آلي" أنني كلمت "مايكل" عنكِ، إذا هو يكتب له.. يكلمه.. يخبره عن كل شيء.. ولا ينساه أبداً، فكرة عدم النسيان أساسية في الفيلم، ولكن فكرة التحدث مع الموتى احتلت إطاراً كبيراً أيضا - وسامح الله سينسكيب الكويت التي قطعت كل المشاهد التي يظهر فيها البطل في حديث مع أخيه - والمعلوم أن الغرب يتفنون في هذا الموضوع، وهناك الكثير من الوسطاء الروحيين الذين يدعون أنهم يستطيعون التحدث مع الموتى، بل إن هذا الموضوع أصبح علماً في الآونة الأخيرة ويمكن لأي شخص أن يتصفح مواقع الأنترنت ليقرأ عنه، والذي شدني كثيرا ولم أستطع تفسيره كلمة "تايلر" الأخيرة، فهو بعد أن تكلم عن مقولة "غاندي" قال: "..."مايكل"، "كارولاين" سألت إذا كنتُ أعلمُ أنك تسمعني، الآن أنا أعلم، أحبك ويا إلهي كم أفتقدك". إذاً هو وصل إلى مرحلة اليقين أن "مايكل" يسمعه، ولو عرفنا ما كان يقول لـ"مايكل" لعلنا استطعنا فهم ما يقصد بالضبط - مرة أخرى سامح الله سينسكيب الكويت -.

    مناقشة الإرهاب بطريقة فريدة:
    الرسالة الأساسية للفيلم تتمثل في معالجة موضوع الإرهاب، والحث على عدم التساهل مع الإرهابيين وتذكر ضحايا الإرهاب. ولكن التميز كان في معالجة الموضوع المبتكرة، في الفيلم لم تذكر كلمة "إرهاب" إلى في مشهد واحد، حيث يتناقش طلاب الفصل مع أستاذهم عن أساس الإرهاب وعلاقته بمعرفة ماضي الإرهابين وطبائعهم البشرية. الفيلم يبدأ بمشهد إرهابي (قتل أم البطلة)، وينتهي بمشهد إرهابي (أحداث ١١-٩)، طريقة الفيلم في معالجة هذا الموضوع كان في تقمص شخصية ضحية من ضحاياه، والعيش في أدق تفاصيل حياتها، ما يجعل المشاهد يعيش معها ويتعلق بها وبأفراد أسرتها (الأخت - الحبيبة - الأم - الأب - الصديق - الأخ) وكل ما يرتبط بهذه الشخصية، فيزرع جواً عميقاً من الألفة بين المشاهد والضحية حتى يفجعك في نهاية الفيلم بموته! ويقول لك "تذكرني - عنوان الفيلم"، هنا تشعر أنك فقدت إنسانا عزيزا جدا، إنسانا كان قريبا لك، كنت له كأحد أفراد عائلته لمدة ١٢٠ دقيقة تقريبا. لا شك أن هذا الأسلوب مؤثر بشكل حيوي أكثر من الطريقة السردية التي رأيناها في الكثير من الأفلام التي عالجت الإرهاب بطريقة مباشرة، وهذا ما يفسر إحمرار عيون الخارجين من قاعة السينما فور انتهاء الفيلم.
    تعريف الإرهاب في الفيلم
    متابع الفيلم يستخرج مفهوما شاملا للإرهاب، فالإرهاب في الفيلم يظهر أحيانا في اعتداء فتيات صغار على زميلتهن في المدرسة، وأحيانا في جريمة قتل وسرقة، وأحيانا في الإعتداء الجسدي، وأحيانا في الإعتداء على القانون، وأخيرا في العملية الإرهابية الضخمة التي تشتمل قتل المئات والخراب، والغريب أن العمل الإرهابي الأكثر تأثيرا في مجريات الفيلم كان إنتحار "مايكل"!! نعم لقد قتل نفسه وألحق أضرارا نفسية واجتماعية مؤلمة على محيطه ومحبيه وأهله، ابتداء من انفصال أبويه والتغير في شخصية أخيه والحرمان في الذي عاشته أخته الصغرى، إنتهاء إلى توتر العلاقة بين "تايلر" و"أبيه".

    "أنا آكل الحلويات أولاً"!
    هذا ما قالته البطلة "آلي"، معللة ذلك بأنها تحب أن تأكل ما تحبه بدرجة أكبر، لماذا؟ لكي تضمن أنها أكلت ما تحب قبل فوات الأوان! يعرض الفيلم هنا حكمةً في قالب من السخرية، فالبطلة تطلب من البطل ضمانا بل تريده أن يقسم بروحه أن الوقت سيمهلها أن تأكل الوجبة الرئيسية ثم تأكل الحلويات قبل أن يسقط نيزكا من الفضاء أو يحدث أي حادث قد يحرمها من رغبتها الأخيرة وأكثر ما تحب القيام به..وهو أكل الحلويات!
    الحكمة المراد توصيلها هنا أن الحياة قصيرة، فعلى الإنسان أن يستغلها بالقيام بما يحب قبل فوات الأوان، لعلها رسالة يغلفها الأمل في وجه الرسالة الكبرى في الفيلم وهي قضية الإرهاب، وأكبر مثال هو البطل "تايلر" كان عليه أن يختار حبيبته قبل فوات الأوان، ليس قبل سقوط نيزك من الفضاء، ولكن قبل سقوط طائرة من السماء على رأسه! نعم لا أحد يستطيع أن يقسم بروحه أن هذا الشيء لن يحدث! وهنا تفسير كلام البطل في آخر الفيلم في تفسيره لكلام "غاندي" وضرورة القيام بكل الأعمال التافهة في الحياة، وقد قرنها "تايلر" بدخول شخص ما لحياتك وانتهاز هذه الفرصة، كما قام هو بانتهازها.
    الإرهاب قد يقع في أي وقت وفي كل مكان..فاحرص على القيام بما تحب قبل فوات الأوان.

    والجميل أن حياة "تايلر" والتغيرات في شخصيته ممكن أن نحصرها في فترتين: الأولى خروج شخص من حياته (أخوه "مايكل") والثانية دخول شخص في حياته (حبيبته "آلي") وهذا يبين تأثير الإنسان على الإنسان لا المحدود.    


    دعوة إلى مكافحة الإرهاب - الإصلاح
    يبين الفيلم خطورة نمو الإرهاب بطريقة رمزية، حيث في بداية الفيلم تظهر الأم مع طفلتها ويظهر من خلفهما برجا نيويورك العملاقان من بعيد، ثم يُعتدى على الأم وتقتل دون أن يُعاقب الجاني ويتضح فشل الزوج وهو الشرطي في حماية زوجته في سنة 1984م ، وينتهي الفيلم في عملية إرهابية ضخمة في سنة ٢٠٠١م، هنا إشارة إلى أن هذا العمل الإرهابي الفردي بدأ بالنمو آنذاك حتى سنة 2001م - أي من بداية الفيلم حتى نهايته - وصل إلى ذروته إلى أن طال البرجين الذين بدا بعيدين في البداية، وذلك الشرطي يظهر تقاعسه في اعتقال المعتدين الذين اعتدا على رجلين بريئين حاول البطل الدفاع عنهما، ولكن الشرطي كان بكسره هيبة القانون وإهماله معاقبة الجاني (الإرهاب) يسمح لذلك الخارج عن القانون بممارسة أعماله الإرهابية كيفما يشاء وكما يقول المثل "من أمن العقاب أساء الأدب"، عندها ظهر البطل بشخصية المصلح، المحارب للإرهاب.

    شخصية المصلح والإسقاط السياسي
    البطل "تايلر" تظهر في شخصيته الضائعة بعض الصفات النبيلة، فهو عندما حضر موقعة الإعتداء نراه ينصر المظلوم على الظالم، وعندما سأله صديقه في السجن لما فعلت ذلك؟ كان جوابه - بما معناه - أن هناك أمورا لم تجري كما يجب. 
    وفي موقف آخر عندما يدافع عن أخته "كارولاين" أحب الناس إليه، عندما سخرت بها إحدى زميلاتها..قام ثائرا ليرعب الفتاة ويكسر الباب بما فيه من زجاج، ليدخل الرعب في قلبها ليضع لها ولظلمها حداً. هنا يقوم بعملية "إرهاب الإرهاب" إذا صح التعبير، ولعل في هذه المواقف إسقاط سياسي على ما تعمل به السياسة الأمريكية في محاربة الإرهاب، وضرورة عدم التوقف عن "إرهاب الإرهاب" - مرة أخرى على طريقة أبي نواس (وداوني بالتي كانت هي الداءُ) - فكأنما "جورج بوش" و"تايلر" وجهان لعملة واحدة، الهدف واحد والإطار أوسع، إن أراد العالم للإرهاب أن يتوقف فعلينا أن نتصدى له بإرهاب أكبر منه نصرةً للحق والمظلوم. ويكفي فكرة الفيلم الأساسية ودعوة الفيلم في عنوانه "تذكرني"..أي لا تنسوا ضحايا الإرهاب..لا تنسوا الإرهاب المسبب لهذا الدمار..يجب التصدي له، ومن الظريف أن يزيد بن معاوية لا يذكره إلا الشيعة!! لأنهم لا ينسون الحسين (ع) فذكر المجني عليه مقرون بذكر الجاني ومحاربة خطه الفاسد، عندما يتأثر الإنسان عاطفيا مع مظلوم فإنه يصب جام غضبه على الظالم بشكل تلقائي.



    من قص شعر "كارولاين"؟ 
    "كارولاين" هذه الطفلة البريئة الجميلة، تمتاز بخفة دمها وإشراقة ابتسامتها، تأسر القلب من أول مشهد. لكن هناك شيء غريب في هذه الشخصية، لعلها تشتكي من اضطراب نفسي أو ما شابه، فهي كثيرة الشرود، تسرح بخيالها حتى تفد الإتصال مع العالم الحسي، وقد اعترفت لأخيها بهذا السلوك الغريب، حتى إن معلماتها في المدرسة يضطرون لطقطقة أصابهن أحيانا، أو إلى النقر على اللوح أحيانا أخرى للفت انتباهها وإرجاعها من عالم الخيال إلى الواقع.
    هذه الصفة قد تفقد ثقة المُشاهد في القوة النفسية لهذه الطفلة اللطيفة، وعلى هذا الأساس فإنه في حادثة الإعتداء عليها في قص شعرها - إذا كان حقا قد أعتدي عليها - فالفيلم لا يضع مشهد الإعتداء إنما يعرض مشهدا لزميلاتها يلعبن بشعورهن وهي تنظر إليهن، ثم في المشاهد التالي تظهر "كارولاين" تتحدث لأمها باكية وشعرها مقصوص! هي تدّعي بأن زميلاتها اعتدين عليها وقصصن شعرها، ولكن زميلاتها - اللائي كن دائما يتهمنها بغرابة الأطوار - يدعين أنها قامت بقص شعرها بنفسها! حسنا..المُشاهد بطبيعة الحال، وبسبب تأثره بسحر وجمال وبراءة "كارولاين" سوف يصدقها بلا شك، ولكن هل يمكن لأحد الجزم في هذا؟ الفتاة التي تعاني من بعض المشاكل النفسية لعلها تقوم بما تدعي زميلاتها، والسؤال هنا: لماذا وضعنا المخرج في هذه الحيرة؟ كان بالإمكان أن يعرض عملية الإعتداء! أو أن يكتفي باتهام "كارولاين" لزميلاتها من دون أن يدعي أحد أنها آذت نفسها، أو بالأساس..لماذا وُضعت هالة الإضطراب النفسي على "كارولاين"؟ لماذا يصر المخرج حتى المشهد الأخير أنها تسرح وتشرد وتطير في عالم بعيد أثناء شرح المعلمة للدرس؟ لا بد أنه أراد من المُشاهد أن يشك في صحة ادعائها ولو بنسبة بسيطة.
    من خلال قراءة الفيلم، واتجاهه في طرح قضية الإرهاب في عدة صور، يمكننا الإنتقال من المنظور الصغير إلى المنظر الكبير الأساسي في الفيلم، أرى أن اعتداء الفتيات رمزا أو صورة من صور الإرهاب، و"كارولاين" ممكن أن تكون "مدعية" وذلك لاضطراب نفسي يقودها لغايات مثل لفت الإنتباه من الأهل ولاسيما الأب، أو تكثيف الرعاية المحيطة بها، أو حتى للإنتقام من تلكم الفتيات اللاتي كن دائما يؤذينها بالفعل. أشتم من هذا التصوير اسقاطاً خفياً على القضية الإرهابية الكبرى ١١-٩، ولاسيما أن النظريات كثيرة حول إمكانية قيام أمريكا نفسها أو على الأقل تهييء الأجواء لضرب نفسها! فالكثير من المحللين يستهزؤون من إمكانية خطف طائرتين بواسطة بعض السكاكين، لاسيما وإنهم يربطون هذا المعطى مع المعلومات التي تفيد أن هناك عدد كبير جدا من الموظفين في البرجين المغدورين قد تخلفوا عن عملهم في ذلك اليوم، لذلك من الممكن أن الفيلم لم تفته هذه النقطة وبطريقة غاية بالعبقرية، حيث أن نسبة تصديق إمكانية قيام أمريكا بإلحاق الضرر بنفسها بهذا الشكل المروع - أعتقد شخصيا - أنه يساوي نسبة تصديق أن تقوم هذه الفتاة الساحرة المسالمة بإلحاق الضرر بنفسها.

    حركة رونالدينيو!!
    شخصيا وبكل صراحة..هذا أكثر ما أعجبني وأدهشني وصدمني في الفيلم، "حركة رونالدينيو"تعبير يستخدمه أحد أصدقائي الشعراء للتعبير عن نوع من أنواع البلاغة - في التشبيه الضمني - في بعض أبيات الشعر، مثال ذلك هذا البيت:
                 
   لا تحسبن ابتسامي ناطقاً برضاً               علامة الجر فتح الحرف أحيانا


    
    الفكرة تكمن في الإبتداء بأسلوب معين ذو وتيرة هادية في الشطر الأول، ثم يصدمك الشطر الثاني بارتفاع الوتيرة والأسلوب والتكلم هن موضوع آخر تماما يفسر الشطر الأول، تماما مثل حركة رونالدينيو الـFlip Flap والتي يتجه بالكرة لاتجاه معين ثم يصدم المنافس بالتحول فجأة للإتجاه الآخر، كما يوضح هذا المقطع:

     هذا تماما ما قام به الفيلم، مجريات وأحداث اجتماعية ورومانسية..وفجأة ننصدم بالتاريخ ١١- ٩ يكتب على لوح الفصل!! وأبراج نيويورك!! لو ألغي هذا المشهد فقط لالتشت رسالة الفيلم الأساسية.

    هذه كانت مجموعة من الرؤى لفيلم متميز من الأفلام التي ستحظى بمجال كبير لذاكرتي الفنية، أُذَكِّر أخيرا أن لكل متذوق قراءة خاصة للنص الأدبي، وهذا ما يميزه عن النص العلمي الجامد.